البارت السابع.. بين الحنين و الماضي
رواية / هل يكفي عمري لنسيانك ؟!
بقلم / سمر الكيال
حسناء الكيال
********************
*** البارت السابع ***
نزل محمد من عربيته ووقف قدام بوابة النادي، عينيه بتدور بهدوء بارد على الممرات والناس.
هو ما قالش لفرح، لكنه شافها... شافها قاعدة مع أحمد ، ووشها مرتاح، ونظرتها هادية.
بس هو... جواه كان بيغلي.
ما حبش يشك فيها، ومارضاش يعترف لنفسه إنه بيغير.
إنما الصورة دي سكنت عقله، ومقدرتش تمشي.
خرجت فرح من النادي وهي بتضحك مع ملك، أول ما شافته قربت بخطواتها السريعة.
فرح (ببهجة):
" أخيرًا جيت! حسيت إنك هتنسى توصلنا!"
محمد (بابتسامة بسيطة):
"أنا أنسى؟ دا أنا حتى سايب الشغل مخصوص."
ركبوا العربية، الجو كان هادي شوية، محمد سايق وساكت... بيجاوب باختصار، لكن صوته فيه دفء.
ملك، كعادتها، كسرت الصمت:
ملك:
"إحنا متحمسين جدًا للعشا! يعني يا رب يكون في مكان فيه موسيقى وهدوء... عايزين نفصل!"
محمد (بص في المراية الداخلية وهو بيشوف ضحكة فرح):
"المكان هيعجبكم... وهتفصلوا فعلاً."
وصلوا البيت، كل واحد طلع يغير هدومه بسرعة. فرح لبست فستان بسيط، أنيق بلون زيتي، وشعرها سايب على كتفها.
ملك لبست فستان وردي واسع، وضحكتها مالهاش حل.
محمد كان مستنيهم تحت، لابس قميص أزرق غامق وبنطلون رمادي، شكله في قمة الهدوء... لكن جواه زوبعة.
ركبوا العربية من تاني، وبدأت سهرتهم.
---
وصلوا المطعم الراقي. المكان واسع، إضاءته دافئة، والموسيقى الناعمة بتتسلّل في الخلفية.
الهواء عليل، وصوت الموسيقى مدّية للمشهد نكهة مختلفة.
إلهام كانت لابسة إطلالة أنيقة بطابع كلاسيكي، وليلى كمان لابسة فستان بسيط ناعم، وعيونهم فيها فرحة وهما شايفين ولادهم حواليهم على الترابيزة.
إلهام (بمزاح خفيف):
"يعني عشان أخرج معاكم لازم يبقى في حالة طوارئ؟"
ليلى (بضحكة):
"وهو إنتِ بتخرجي أصلًا؟! دي أول مرة من شهور!"
فرح (بمزاح وهي تمسك إيد ليلى):
"بقى كده يا ماما؟! ده أنا اللي رجّيت البيت كله علشان توافقي!"
ملك (بتضحك):
"لو كنتِي مشيتيها على محمد بس، كنا لقينا نفسنا لوحدنا على العشاء."
محمد (بابتسامة خفيفة وهو بيبص لفرح):
"بس لوحدكم ما كانش هيبقى ليه طعم."
نظرة سريعة منه ليها، كانت مليانة أكتر من الكلام... وفرح لمحتها، بس نزلت عينيها بسرعة.
إلهام:
"يا جماعة ما شاء الله، شكلنا عيلة من إعلان تلفزيون... ناقص بس المخرج يقولنا: ابتسموا، أنتم أحسن عيلة."
ملك:
"لأ بجد... الجو حلو، والأكل شكله يجنن، وأنا مبسوطة إني خرجت معاكم."
فرح (بتبص ..لملك بطريقة مضحكة )
وبتقول دايما كل تفكيرك ف الاكل وبس.
محمد كان ساكت، بيشرب عصير بهدوء، بس جواه عاصفة.
هو لسه ساكت على الصورة اللي شافها الصبح... أحمد وفرح.
محدش واخد باله، بس هو واخد باله من كل تفصيلة، من ضحكة، من نظرة، من كلمة.
ليلى (بتلمح شروده):
"مالك يا محمد؟ هتاكل ولا هتعمل عرض أسعار للسلطة؟"
ضحكوا، وهو ابتسم وهو بيقطع قطعة أكل:
محمد:
"لا... بس عقلي لسه في الشغل، بصراحة."
إلهام (بتبص له بحنان):
"خف شوية يا حبيبي، إنت طول الوقت شايل مسؤولية... استمتع باللحظة، إحنا حواليك."
ملك بدأت تحكي عن مواقف فرح في المدرسة، والكل ضحك، خصوصًا لما محمد قال بدهشة:
محمد:
"هي قالت كده فعلًا؟! أنا كنت فاكر إنك ملاك صغير زمان!"
فرح (بخفة دم):
"ملاك؟! ده إنت اللي كنت بتحوّلني ملاك بالعافية!"
ملك:
"محمد كان شديد معاها أوي أيام المدرسة... بس كانت بتدلع عليه أوي."
فرح (بتبتسم وهي بتبص له):
"عادي... هو عمره ما كان يقدر يزعلني."
محمد بصّ لها بنظرة كلها حنين، بس جواه في حاجة مش قادر يسكتها...
محمد (في سره):
"بس لو عرفتي إن حد غيري بيقربلك... مش عارف هقدر أسيبها تمشي كده."
،،،،،،،،،،،
ونروح لإسطنبول...
لمكان لاول مرة نزورو، بعيد عن ضجيج القاهرة ودفء بيت ليلى ومحمد، وننقلهم لأحياء إسطنبول الهادئة، حيث الشوارع المرصوفة بالحجر القديم، والمقاهي العتيقة اللي بتفوح منها ريحة القهوة التركية، وعبق الماضي ممزوج بسحر الحاضر.
في حي راقٍ هادئ، بيطل على مضيق البوسفور، بيت أنيق بلونه الأبيض ونوافذه الواسعة، كان واقف فيه عماد...
عماد بدر - رجل في منتصف الأربعينات، لكن الزمن نسي يسيب بصمته على ملامحه.
طليق ليلى... راقٍ، أنيق، شخصيته جذّابة فيها مزيج من الحكمة والمرح، وعيناه فيها حزن قديم بيحاول يدفنه وراء ابتسامته الهادئة.
وفي اللحظة دي...
جرس الباب بيرن.
عماد بيروح بهدوء ويفتح الباب...
وفي لحظة، بتقتحم نازلي المشهد.
نازلي يلماز - شابة تركية مصرية، عمرها ٢٧ سنة، بجمالها الصارخ وابتسامتها اللي تخطف القلب. شعرها البني الطويل مربوط على شكل كعكة فوضوية، لابسة فستان خفيف بلون وردي، وواقفة قدام الباب وسط كومة شنط وهدايا وعلبة تورتة مزينة بقلوب صغيرة.
نازلي (بحماس):
"Merhaba "
عماد ... مفاجأة
عماد (مندهش وهو بيفتح الباب على وسعه):
"نازلي! إنتي جاية لوحدك؟ إيه ده كله؟!"
نازلي (وهي بتدخل كأنها في بيتها):
" طب ما أنا قولت أجي أحتفل بعيد ميلادك!
كل سنة وإنت طيب... أوه صح! أنت نسيت، كالعادة!"
عماد (بضحكة خفيفة وهو بيأخد منها الشنط):
"يعني مش ناوية تسامحيني إن دماغي مشغولة؟"
نازلي (بمزاح وهي بتقفل الباب برجليها):
"لا، بس أنا دايمًا فاكرة... عيد ميلاد سعيد!"
عماد:
"هو أنا لو ما كانش عندي نازلي، كنت نسيت حتى اسمي!"
نازلي (وهي بتشيل التورتة وبتدخل على المطبخ):
"أهو عشان كده، أنا دايمًا موجودة... تعرف؟
أنا يمكن الوحيدة اللي عمري ما نسيت يومك ده."
عماد (بيبتسم بامتنان):
"أبوكي الله يرحمه كان بيقول دايمًا إنك عندك قلب مصري وعقل تركي."
نازلي (بضحكة خفيفة):
"وعين قلبي كلها ليك، بس إنت مش واخد بالك..."
بيتفرج عليها وهي بتتحرك في البيت براحتها، وكأنها بتلم تفاصيله بعينيها،
كأنها بتفتّش عن شيء مش موجود... أو عن لحظة بتستناها من سنين.
عماد (وهو بيحاول يغير الموضوع):
"فنجان قهوة؟ ولا هتشتغلي معايا النهاردة عشان أنسى اليوم تمامًا؟"
نازلي (وهي بتفتح شنطة فيها هدية مغلفة):
"بعد القهوة، هفتحلك الهدية... بس لازم توعدني تبطل تنسى الأيام اللي ليها معنى."
عماد:
"طالما فيكِي، عمري ما هنسى حاجة."
نازلي (بهمس وهي تبص له):
"بس يا ترى... هتفتكرني يومًا بنفس الطريقة؟"
يسود صمت خفيف، عماد بيشوف كلامها دعابة، لكن هي كانت بتتكلم بصدق خالص...
كل كلمة بتقولها ليه من قلبها، بس مش قادرة تعترف، وهو مش قادر يفهم.
بيضحكوا سوا في المطبخ...
وفوق الطاولة، التورتة مكتوب عليها:
"To the man who never gets old... Happy Birthday."
الجو صيفي، لكنه مشبّع بنسمة باردة ناعمة،
والمطر نازل خفيف جدًا، زي نغمة موسيقى هادئة بتتمايل على شرفات البيوت.
ريح خفيفة بتحرك ستارة شباك المطبخ الأبيض،
والجو كله كأن إسطنبول بتحتفل بعيد ميلاد عماد على طريقتها.
في اللحظة دي، نازلي وقفت قدام عماد وهي بتقدّمله علبة صغيرة من المخمل الأزرق الغامق،
عليها شريطة سيلفر رفيعة، ولمّا فتحها...
كانت الهدية:
ساعة يد رجالية...
فخمة لكن بسيطة، سوارها من الجلد الأسود الناعم،
وجهها مستدير بإطار معدني لونه فضي مطفي،
والعقارب بتتحرك بهدوء كأنها بتعد اللحظات ما بينهم، مش بس الوقت.
لكن المفاجأة كانت في ظهر الساعة.
عماد قلبها بفضول، وابتسم أول ما شاف النقش...
"E&N - 7R."
نقش محفور بعناية شديدة،
يبدو بسيط للي ميعرفش، لكن هو وهي بس اللي فاهمين معناه.
نازلي ابتسمت وقالت وهي بتحاول تبين إنها بتهزر:
"الـ7R دي مش رقم طيارة على فكرة."
عماد (بعينه الهادية وابتسامة شبه باهتة):
"عارف...
٧ يوليو... ريمليك، المكان اللي شفتك فيه أول مرة من سنين."
نازلي (وهي بتزفر نفس عميق):
"كلنا بنفتكر اللي عايزين ننساه... إلا لما اللي قدامنا يقرر يخلينا نفتكر."
عماد (بصوت منخفض):
"والـE&N؟"
نازلي (وهي تضحك بخفة):
"اختصارك واختصاري...
بس الكتابة بالشكل ده ما حدش هيفهمها غيري أنا وإنت، مش كده؟"
سكت لحظة، وعيونه ثبتت على ظهر الساعة.
كأن كل ثانية فيها حكاية من اللي ما اتقالتش،
وكأن الهدية دي كانت محاولة من نازلي إنها تفضل معاه،
حتى لو مش بكلام، تفضل "منقوشة" على جلده... زي توقيت ما بيمسحوش الزمن.
عماد (بصوت ناعم):
"هدية مميزة... زي صاحبتها."
نازلي (بحماس وهي بتحاول تهرب من اللحظة):
"إنت مش بتلبس ساعات، بس أنا عارفة إنك هتلبس دي، مش كده؟"
عماد (بهدوء):
"هلبسها... كل يوم."
وفي الخلفية، المطر بيزيد خفة...
لكن اللحظة تقيلة بالمشاعر،
ما بين اللي بتحبه وبيخبي،
وبين اللي بيحس ومش قادر يعترف.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
ركنت السيارة قدام باب الفيلا، ونزلت ملك بابتسامة لطيفة وهي بتفتح الباب:
ملك (بخفة دم):
"شكرًا على العزومة الحلوة يا أهل الكرم، أنا خلاص بطني قالتلي كفاية!"
فرح (ضاحكة):
"تعيشي وتفتكري يا شيخة... المهم ماتحلميش بالأكل!"
وتكمل فرح بابتسامة تصبحي على خير يا لوكا
ملك:
" يلا سلام، تصبحوا على خير.
محمد (بصوت هادي وهو سايق):
"على فكرة... وأنا رايح آخدكم من النادي... لمحتك قاعدة مع حد في استراحة التدريب."
فرح بصتلة بنظرة بريئة جدًا، عينيها فيها عفوية الطفلة:
فرح (ببساطة):
"آه، ده أحمد السوهاجي، شريكي في التمرين... إحنا في نفس الجروب عند الكابتن، وكنّا بنتكلم شوية قبل ما أبدأ التمرين."
محمد ما علّقش، بس لمس ضيق بسيط ظهر في عينه، إنما بسرعة غطّاه بسكوت مُعتاد.
وصلوا للبيت، ودخلوا من باب الفيلا. وقبل ما كل واحد يروح على غرفته:
فرح (بابتسامة ناعمة):
"تصبح على خير يا محمد."
محمد (بصوت دافي):
"وانتي من أهله يا فرح."
---
[البيت - غرفة ليلى]
ليلى كانت قاعدة على طرف السرير، لابسة بيچامة حريرية بلون غامق ، وبتقلب في صور قديمة في صندوق خشبي صغير.
إلهام كانت قاعدة على الكرسي المقابل ليها، بتشرب شاي دافي. عشان كدة خليتي السواق يجيبنا من المطعم قبل فرح ومحمد .
ليلى (بصوت ناعم مخنوق):
"عارفة يا إلهام... النهاردة عيد ميلاده... عماد."
إلهام (رفعت حاجبها بشويّة حزن):
"لسه فاكرة؟ هو أصلاً كان دايمًا بينسى التاريخ ده."
ليلى (بضحكة حزينة):
"بس أنا عمري ما نسيته... كنت بحتفل بيه حتى وهو مش فاكر... كنت بكتب التاريخ ده على الورق، وأخبّيه ف شنطتي."
سكتت لحظة، ومسحت دمعة نزلت من عينيها وهي بتقلب صورة ليها وهي ماشية جنب عماد في مناسبة قديمة.
إلهام (قامت وراحت ليها، ولمست كتفها):
"أنا عارفة إن وجعك مش بسيط... بس ربنا عوّضك بفرح... وبينا إحنا اللي حواليكي، إحنا سندك."
ليلى (بصوت مهزوز):
"أنا مش ضعيفة يا إلهام... بس بعض الذكريات بتكسرنا وإحنا واقفين."
إلهام ضمّتها بحنان، وبعدين قالت وهي بتتمطى:
"أنا هسبقك وأنام... نامي إنتي كمان، متسيبيش قلبك يصحى عليه الذكريات."
ليلى (بصوت واطي):
"هحاول... تصبحي على خير."
إلهام خرجت من الغرفة بهدوء...
وسابتها وسط نور خافت، وصوت السكون.
ليلى فضلت قاعدة، وعينيها ثابتة على صورة قديمة،
وبين نفسها قالت:
"كل سنة وأنت طيب... حتى لو مش معايا."
********
غرفة محمد - منتصف الليل
الهدوء ساكن البيت، وقطرات المية من حمامه السريع لسه بتلمع على شعره، وهو واقف قدام المرآه
لمبة الأباجورة منورة نور خفيف، وهو بيقعد على الكنبة في الركن، وبياخد نفس عميق.
يرنّ التليفون مرتين...
الضل يتصل ، ويرد محمد : ايوه سامعك
الضل صوته مبحوح لكن واثق:
آسف يا باشا على التأخير... الراجل ده تعبني جدًا على ما لقيناه.
محمد، بصوت ثابت وحازم، عينه في الأرض وكأنه بيفكر في ألف حاجة:
فين؟
الضل يرد بسرعة:
رجالتي لقوه في بار كده... وبدون تفاصيل، جبناه للمخزن. معانا دلوقتي.
محمد يهز راسه بهدوء وهو بيعدل جلسته:
تمام... أنا عايز رجالتك يتوصوا بيه. عايز يطلع من عندك ناسي حتى اسمه، فاهمني؟
الضل يرد بابتسامة باينة في نبرته:
حاضر يا باشا... هنعمل شغل نضيف، ما تشيلش هم.
محمد يقفل عينيه لحظة، وبعدين يقول بصوت أخف لكنه فيه نبرة قاطعة:
أنا مش عايز أشوفه قريب من أي حد يخصني، تمام؟
الضل يرد بإيجاز:
تمام.
محمد يكمل:
واتعابك إنت ورجالتك هتوصلك وزيادة... على حساب الراحة اللي أنا متأكد إنكم مش هتشوفوها النهاردة.
ضحكة مكتومة من الضل:
ده شرف لينا يا باشا.
محمد من غير أي كلام زيادة، يهمس:
سلام.
ويقفل المكالمة.
يقوم من على الكنبة، يفتح الشباك بصمت، والهواء الليلي يدخل برودة خفيفة على وشه...
لكن وشه مش بيتحرك.
مجرد عيون بتفكر... وعقل بيحسب كل خطوة قبل ما تحصل.
*******************
بقلم / سمر الكيال
حسناء الكيال
** انتظروني البارت القادم **
تعليقات
إرسال تعليق