البارت التاسع عشر.. واخفيت وجعي
رواية / هل يكفي عمري لنسيانك ؟!
بقلم / سمر الكيال
حسناء الكيال
**** البارت التاسع عشر****
"ليلة ثقيلة... لا يُطفئها إلا الفجر"
المنزل – مساء متأخر
تُفتح بوابة الفيلا بهدوء، يدخل محمد بصحبة ليلى، وملامحهما مثقلة بصمتٍ طويل لم يقدر أيّ منهما على كسره في الطريق.
في بهو المنزل، كانت إلهام بانتظارهما، تقف بهدوء وقد شبكت يديها أمامها، ووجهها يعلوه قلق صامت.
محمد وهو يخلع حذاءه بتعب:
فرح فين؟
إلهام تهز رأسها بلطف:
طلعت أوضتها من بدري…
محمد يهمّ بالصعود، فتُسرع ليلى بنداء خافت:
محمد... هنقول لها إمتى؟
يلتفت محمد، ويقطع حديثها بنبرة حاسمة لكنه متعبة:
مش النهاردة خالص يا عمتي... سِبيلي أنا الموضوع ده، بس ربنا يستر.
ويتابع صعوده بخطوات ثقيلة، لا يحمل في قلبه إلا خشية واحدة: أن يرى الانكسار في عين فرح.
يمر على غرفته لكنه لا يدخلها.
يتوقف أمام باب غرفة فرح. الضوء مُطفأ. يمد يده ببطء ويفتح الباب بهدوءٍ مفرط، كأنه لا يريد إزعاج الزمن نفسه.
يتسلل بخطواته إلى داخل الغرفة.
كانت فرح نائمة… أو على الأقل تتظاهر بذلك.
وجهها مغمور في وسادتها، أنفاسها هادئة، شعرها منسدل كظل طفولةٍ ناعمة.
يقترب منها، يقف فوق رأسها، ينحني قليلًا ويُقرب أذنه لأنفاسها…
يسمعها… مطمئنة، منتظمة.
تتنفس، إذًا لا زالت هنا.
عيناه تمتلئان بالدموع، يسحب جسده إلى الكرسي المقابل لسريرها.
يخلع جاكيته، يُلقي به على ذراعي الكرسي، ويجلس…
عيناه لا تفارق وجهها، كأنّه يتمنى لو يستطيع أن يحمل عنها كل ما سيأتي.
يضيع الوقت في صمته. وفي لحظة ما… يختطفه التعب، فينام وهو جالس، يداه متشابكتان على صدره، ووجهه موجّه نحوها، كأنه يحرس الحلم.
غرفة ليلى – نفس اللحظة
إلهام تُمسك يد ليلى التي ما زالت تبكي بصمت، وعيناها متورمتان من القهر والوجع.
إلهام بهدوء حنون:
متخافيش… فرح مش بس بنتك، دي حتة منك، من روحك. عمرها ما هتسيبك. انتي اللي ربيتيها، واللي حبتك زي ما بتحبيها.
ليلى تهز رأسها، ولا تجد صوتًا ترد به.
لا شيء يؤلم مثل وجعٍ لا تملكين له تبريرًا.
،،،،،،،
في فيلا عماد – نفس التوقيت
يجلس عماد في صالة جلوسه، مُطأطئ الرأس، ونازلي إلى جواره، تمسك كفه بين يديها وتضغط عليه بحنان.
نازلي بصوت هادئ وداعم:
كل ده هيعدي... صدقني. فرح هترجعلك، أنا حاسة… هي بنتك، وهتعرف ده.
عماد يهمس بصوت يخرج من قاع قلبه:
بس أنا خايف... خايف تكون خلاص لقت حضن تاني، وتكون مش مستعدة تسامحني، ولا حتى تبصلي… خايف تخذلني يا نازلي… أنا مش ناقص خسارة جديدة.
نازلي تقبّض على يده بقوة أكبر:
مش هتخذلك. وأنا معاك، ومش هسيبك تعدي ده لوحدك.
"ليلة... لم ينم فيها أحد حقًا، حتى من أغمض عينيه."
*******************
فيلا عائلة أبو زيد، صباح يوم ثقيل
استيقظت فرح على ضوء خفيف يتسلل من الشباك، تمددت ببطء، ثم التفتت لترى محمد نائمًا على الكرسي المقابل للسرير، رأسه مائل، وجاكيته مغطي جزء من جسده. اقتربت منه بهدوء، تنظر له باستغراب وحنان.
فرح (بهمس):
"إمتى جيت هنا؟"
تحرك محمد بتعب، عيونه تفتح ببطء، وجهه مرهق وعينيه حمر من السهر والبكاء.
محمد (بصوت مبحوح):
"صباح الخير... يا حبيبتي."
اقتربت منه وجلست على طرف السرير، مدت يدها تلمس كفه.
فرح:
"مالك؟ وشك مش مريحني."
ابتسم ابتسامة باهتة، ومد إيده يلمس خدها بلطف.
محمد:
"أنا تمام... كنت محتاج أبقى جنبك."
سكت لحظة، نظر فيها لعينيها وكأن قلبه بيتكلم من غير صوت.
محمد:
"قومي غيري هدومك يا حبيبتي، وإنزلي تحت وأنا هاخد دش وأنزل وراكي."
قامت فرح بتردد، وهو قام ودخل أوضته، قفل الباب، وسند ضهره عليه.
لحظات صمت، وبعدين نزل على الأرض، دموعه نزلت بصمت وهو بيهمس:
محمد (بكلام مكسور):
"أقولها إزاي؟... أقولها إن طول عمرها بنكدب عليها؟
أكيد هتكرهني... أكيد مش هتثق فيا تاني.
أنا خايف... خايف تبعد عني."
وقف، مسح دموعه، لبس هدومه، وخرج. عدّى على أوضة ليلى، كانت قاعدة مع إلهام.
محمد:
"أنا كلمت عماد... شوية وهيكون هنا."
ليلى (برعب):
"كلمته ليه؟"
محمد (بحزم):
"عماد لازم يكون موجود... دي بنته يا ليلى، متنسيش.
يلّا، عشان ننزل."
نزلوا تحت، إلهام كانت قاعدة على السفرة. وبعد دقائق نزلت فرح، لابسة حاجة بسيطة، شعرها نازل على كتفها، والقلق باين في عينيها.
فرح:
"هو فيه إيه؟ مالكم كلكم؟"
محمد (بابتسامة مصطنعة):
"مفيش يا حبيبتي... تعالي نفطر."
حاولوا يتظاهروا بالطبيعية، لكن الجو كان مشحون.
بعد شوية، رن الجرس. دخل عماد ونازلي، ووش عماد أول ما شاف فرح، اتبدل... عيونه مليانة شوق ودهشة، وهي بصّت له بنظرة استغراب.
قعدوا، ومحمد مسك إيد فرح وقال:
محمد:
"حبيبتي... أكيد مستغربة إحنا مجتمعين كده ليه.
فيه حاجة لازم تعرفيها... بس قبل أي حاجة، أوعي تفتكري إننا كنا بنضحك عليكي.
أنا بحبك... ومش هطلب منك غير إنك تسمعيني للآخر."
فرح (بقلق):
"فيه إيه يا محمد؟ أنا مش فاهمة حاجة."
محمد:
"هفهمك.
أول حاجة، عماد بدر... هو طليق مامتك ليلى."
فرح (بدهشة):
"طليق ماما؟! هي ماما كانت متجوزة قبل بابا؟"
محمد (بهدوء):
"ليلى متجوزتش غير عماد، يا فرح."
فرح سحبت إيدها من إيده، تبصله بعيون مليانة أسئلة وارتباك، وبعدين بصّت لليلى:
فرح:
"يعني إيه؟
يعني أنا؟..."
بصّت لـعماد، وبعدين لليلى:
فرح:
"ماما؟ محمد بيقول إيه؟ أنا مش فاهمة حاجة."
ليلى عيطت، مش قادرة ترد، وعماد حاول يتكلم لكن محمد أوقفه بإشارة:
محمد:
"من ١٧ سنة، حصل زلزال كبير... ضحاياه كتير، أطفال وشباب.
كنت لسه طالع من صدمة وفاة بابا، وليلى كانت مطلقة جديد، ولسه عايشة في صدمة إنها مش هتخلف.
رحنا نساعد في المستشفى...
شفنا طفلة، عمرها كان حوالي ١٠ شهور، بتعيط من غير صوت، مرعوبة، جسمها بيترعش.
شدتني، شدتنا إحنا الاتنين.
سألنا، قالوا إن أهلها ماتوا... ملهاش حد.
خدناها... كأنها كانت مننا.
أيوه يا فرح، البنت دي... كانت إنتي."
فرح (بهمس):
"أنا؟"
محمد:
"سميناكي فرح... عشان أول لما شفناكي محيتي كل الحزن اللي في حياتنا... ورجعتلنا الفرح.
حبيناكي، وعشنا ليكي... أنتي كنتي دنيتنا."
فرح (بصوت مبحوح، بترتعش):
"انت بتقول إيه؟
أنا مش فاهمة…
انت... انت كداب؟
لا… مستحيل."
تبص لعماد بصدمة، وبعدين ترجع تبص لمحمد، عنيها بتترجاه، دموعها واقفة على طرف رموشها.
فرح (بصوت أعلى، موجوع):
"أنا ممكن أصدق أي حد يكذب عليا… أي حد…
بس مش انت.
مش إنت يا محمد."
محمد واقف، ووشه بينهار بالصمت، دموعه نازلة من غير صوت، قلبه بيتقطع، لكنه ساكت.
فرح (بصوت مكسور وهي بتقرب منه):
"أنا عايزة أعرف أنا مين؟
أنا مين يا محمد؟
أنا بنت مين؟"
عماد (بلهفة وبصوت باكي):
"أنتي بنتي…
أنا أبوكي يا فرح.
فرح تلف برأسها ليه ببطء، عينيها تايهة…
فرح (بهمس، برجاء لمحمد):
"قول إنه كداب…
قول إن دي كذبة…
قول إني بنت ليلى…
قول إني بنتك يا محمد… أنا اتربيت على إيدك… في حضنك… قولها…"
محمد ينزل على ركبته قدامها، يمسك إيدها بين إيده، دموعه بتنزل على صوابعه، صوته مخنوق:
محمد:
"خدي نفس… واهدي…
الحقيقة دي صعبة… وأنا عارف…
بس دي الحقيقة، يا حبيبتي…
هو أبوكي اللي جابك الدنيا،
بس أنا اللي ربيتك، أنا اللي سهرت جنبك، أنا اللي كنت أول حضن ليكي…
أنا اللي حبيتك من قبل ما تقولي بابا…
أنا اللي شيلتك بقلبي قبل ما أشيلك بإيدي…"
فرح تبص له لحظة… وبعدها عينيها تزوغ، نفسها يقطع، جسمها يترنح، وتسقط في حضنه، مغمى عليها.
محمد (يصرخ وهو شايلها):
"فرح!!
فرح فوقي!
حبيبتي فوقي!"
الجميع يقوم فجأة، صوت الكراسي بيتحرك بعشوائية، إلّا محمد، ثابت وهو شايلها ووشه مخضوض.
محمد (بصوت غاضب وهو بيجري بيها على السلم):
"هاتوا الدكتور فورًا!
لو جرالها حاجة مش هرحم حد فيكم! فاهمين؟!!"
في الأعلى – غرفة فرح – محمد يدخل بيها، يفرشها بهدوء على السرير، إيده بترتعش وهو بيعدل الغطا عليها.
بعد دقائق، الدكتور يوصل، يكشف عليها في صمت والكل واقف مشدود. أخيرًا، يرفع رأسه:
الدكتور:
"عندها انهيار عصبي…
أنا اديتها مهدئ، وهتنام شوية…
بلاش حد يقرب منها أو يعصبها.
كل حاجة حواليها لازم تبقى هادية.
عن إذنكم."
الدكتور يخرج، وعيون الكل على محمد.
محمد (بصوت هادي لكن حاسم):
"سيبوني معاها.
كلكم.
اطلعوا بره."
عماد (بتوتر):
"أنا أبوها، من حقي أبقى جنبها—"
محمد (بيقطع كلامه، بنبرة تهديد):
"مش دلوقتي."
نازلي (بتدخل بسرعة، تحط إيدها على كتف عماد):
"عماد… ده مش وقت عناد.
فرح محتاجة هدوء، ووقت، ومكان أمان.
وهو الوحيد اللي تقدر ترتاحله دلوقتي."
الجميع يخرج، ومحمد يفضل قاعد جنب السرير، يمسك إيدها بلُطف، ويمسح على شعرها بحنية.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
شركة محمد – بعد مرور أكثر من أسبوع من صدمة فرح
الجو داخل المكتب ثقيل… صامت… والهواء نفسه كأنه واقف. محمد قاعد على مكتبه، رافع راسه للنافذة، شايل الألم في عينيه كأنه شايل جبل على صدره.
وجهه شاحب، الهالات السوداء باينة بوضوح، دقنه طويلة، وقميصه مفتوح الزرار الأول، شكله منهك جسديًا ونفسيًا… وكأنه ما بين الحياة والموت.
باب المكتب يُفتح بهدوء ويدخل فارس، يوقف مكانه لحظة، ويبص لمحمد بصدمة خفيفة من حاله.
فارس (بصوت منخفض لكن قاطع):
"محمد… إنت بتعمل في نفسك كده ليه؟"
محمد ما بيردش، بس عينه بتدمع، ويفضل يبص في الفراغ.
فارس (بيقرب):
"كفاية بقى… أسبوع كامل وهي قافلة على نفسها… وإنت سايب شغلك وحياتك وصحتك ونايم في المكتب أو مش نايم أصلًا."
محمد (بصوت مبحوح):*
" كل ما كنت اطلع لها بالاكل وترفض … بحس إني مش موجود في حياتها خلاص، يا فارس…"
فارس (بحدة):
"يعني لما تنهار تبقى موجود؟ لما تموت و تسيبها تبقى موجود؟
بص لنفسك يا محمد! شكلك بيخض!
قوم قوم معايا… هنروح للدكتور حالًا."
محمد (بهمس):
"أنا كويس…"
فارس (بصرامة):
"قسمًا بالله ما إنت كويس، قوم يا محمد قوم.. أصل لو ما جتش معايا بالذوق هتيجي بالعافية!"
،،،،،،،،،،،،،،
مستشفى خاصة – مكتب الطبيب
جو المستشفى بارد، ريحة المطهر بتغلف المكان، وقلوبهم كلها معلقة بكلمة.
محمد قاعد، باين عليه التوتر، بيحاول يتماسك، وفارس جنبه صامت، بيعض على شفايفه من القلق وخاصه لما الدكتور قالهم لازم اشاعات وتحاليل ضروري "
يدخل الطبيب بهدوء، ماسك ملف كبير، وملامحه جدية للغاية.
الطبيب (وهو بيقعد ويفتح الملف):
"أستاذ محمد… أنا مضطر أكون صريح جدًا.
التحاليل والأشعة واضحة، ولازم تسمعني للآخر."
محمد يبلع ريقه، بيحاول يتماسك، لكن تعابير وشه بتنهار بالتدريج.
الطبيب (بنبرة واقعية وحازمة):
"حضرتك عندك ورم في المخ…
و أهملت الموضوع لفترة … و المشكلة إنة في مكان حساس جدًا."
الصدمة تنفجر في الغرفة.
فارس يتجمد، وبعدين يقوم واقف من كتر الصدمة.
فارس (مذهول):
"ورم؟ في المخ؟!
إزاي؟ إزاي محدش اكتشف قبل كده؟!"
محمد يطأطئ رأسه، صوته مبحوح:
"أنا كنت حاسس…
بس خوفت أعرف."
الطبيب (يكمل):
"الورم ضغط على مراكز حساسة… لازم تدخل طبي عاجل.
إحنا معندناش وقت نضيعه، أستاذ محمد.
لو اتأخرنا أكتر من كده… هتبقى المخاطرة أكبر من الاحتمال."
الصمت يلف المكان.
محمد ينهار من جوه، بس ملامحه صامتة. دمعة واحدة تهرب من عينه وتسقط على بنطاله.
فارس (بصوت مبحوح):
"هنبدأ إمتى؟"
الطبيب:
"النهارده… قبل بكره.
هو قدام خيارين: يقاتل… أو ينهزم."
محمد، عينه في الأرض، قلبه بيتكسر، ولسانه ما بينطقش…
لكن في عينيه ضوء صغير… كأنه بيحارب عشانه… عشانها...
***********
بقلم / سمر الكيال
حسناء الكيال
** انتظروني البارت القادم **
تعليقات
إرسال تعليق