البارت العشرون.. قرار البعد

 رواية / هل يكفي عمري لنسيانك ؟! 


بقلم / سمر الكيال 

حسناء الكيال 


***البارت العشرون***


أمام المستشفى

العربية واقفة على جنب، الإضاءة الشاحبة من أعمدة الطريق بتغسل الوجوه بصفار متعب، والشارع هادي كأن الزمن واقف.


محمد قاعد في الكرسي الأمامي جنب السواق، ساكت، ووشه باين عليه تعب السنين مش الأيام. عينه زائغة وراسه محنية شويه، وفارس سايق وساكت، كل واحد فيهم غرقان في اللي سمعه جوّا المستشفى.


محمد (بصوت واطي):

فارس... بعد تفكير كتير... أوعى تقول لحد أي حاجه... أنا مش عايز حد يعرف.


فارس (بصوت مندهش، بيبصله وهو سايق):

إزاي يعني؟! انت لازم تعمل العملية خلال أسبوع بالكتير، الدكتور قال كده حرفيًا.


محمد (بصوت ثابت لكن موجوع):

أنا مش هعمل عمليات.


فارس (بيفرمل فجأة، وشه مصدوم):

إيه؟! لا، لا، مستحيل! أنت بتهزر، صح؟ محمد دي مش لعبه! ده قرار حياة أو موت... وانت كده بتروح للموت برجليك!


محمد (بهدوء مرعب):

أنا مش هسيبهم يكتشفوا ده... مش دلوقتي.


فارس (غاضب، وهو بيخبط على الدركسيون):

وتقولهم إمتى؟ لما تقع قدامهم؟ لما يفتكروا إنها أزمة بسيطة وتطلع كارثة؟!


محمد (بينفجر فجأة):

عايزني أقول لمين؟!

أقول لأمي؟

أقولها ابنك عنده ورم في المخ، لازم عملية نسبتها ٢٠٪ يعيش بعدها؟

أخليها تعيش نفس الرعب اللي عاشته وهي شايفة أبويا بيتفتّت قدام عنيها؟

أقول لفرح؟

البنت اللي لسه بتلملم نفسها من صدمة عمرها؟

اللي كل يوم بتبصلي فيه كأمانها الوحيد؟

أقولها إن الأمان ده ممكن يروح؟

ولا ليلى... اللي شايفة بنتها بتتبخر من بين إيديها؟


(محمد بيبتسم ابتسامة موجوعة):

انسى يا فارس... ده سر... سر بيني وبينك وبس.


(فارس بيرجع رأسه ورا، ماسك أعصابه، بيكتم دمعة):

طب وهنعمل إيه؟ الدكتور قالك لازم العملية فورًا.


محمد (ساكت لحظة، وبعدين يهمس):

أنا لازم أسيب فرح.


فارس (بصوت مبحوح، مش مصدق):

إنت بتهزر...


محمد (بصوت بارد، مليان وجع):

أنا مش هقدر أخليها تعيش نفس اللي أمي عاشته...

أنا كنت بشوف أمي بتموت كل يوم مع أبويا، قبل كل عملية، بعد كل جلسة...

الخوف، الدموع، الوحدة...

مستحيل أخلي فرح تمر بكده... مستحيل.


فارس (ينفجر):

كده إنت بتعذب نفسك... وبتعذبها! ده مش حل، ده هروب!


محمد (بصوت قاطع، ثابت):

مفيش حل تاني.


(صمت طويل في العربية)

العربية هادية إلا من صوت التنفس المتقطع، ومحمد باصص قدامه، كأنه شايف مستقبله بينتهي من غير صوت.

فارس ساكت، عينه بتلمع، ووشه مش عارف يرتّب الكلام، قلبه واجعه... وصاحبه قدامه بيختار الرحيل بنفسه.


******************


بيت أبو زيد - المساء هدوء ثقيل


محمد بيركن عربيته قدام البيت، بيفتح الباب بهدوء وبيتحرك بخطوات بطيئة... خطوات راجل شايل العالم كله جواه. بيعدي من الجنينة اللي كانت دايمًا مصدر راحة ليه... دلوقتي كلها صمت.


يفتح الباب... البيت ساكن، كأن حتى أنفاسه مش عايزة تطلع.


بهو البيت : 


إلهام قاعدة على الكنبة، ماسكة مصحف صغير، ومشغولة بيه لكن من غير تركيز. أول لما تشوف محمد تقوم فورًا.


إلهام (بقلق):

يعني اتأخرت يا بني ؟ شكلك تعبان يا محمد!


محمد (بصوت هادي جدا ومتعب):

مصدع شويه 


إلهام (بلهفة):

خير يا ابني؟ طمني؟


محمد (بيقرب منها، ويحط إيده على كتفها، وبيقبل راسها):

كل خير يا أمي، متقلقيش... بس محتاج أرتاح شوية.


إلهام (بهدوء وهي بتبص له باهتمام):

فرح لسه ف أوضتها، مقفلة عليها من الصبح...


محمد يومئ برأسه ومايردش. بيبدأ يطلع السلم، كل درجة كأنها حمل.


داخل- ممر الطابق العلوي


محمد بيمشي بهدوء ناحية أوضته... لكن بيعدي على أوضة فرح، وبيقف قدام الباب...

بيبص للباب كأنه حاجز بينه وبين اللي بيحبها، بينه وبين الحياة.


بيحط إيده على المقبض... يفكر يفتحه... لكن يكتفي إنه يلمسه، ويقرب ودنه للباب كأنه عايز يسمع أنفاسها.


مافيش صوت.


محمد (بهمس لنفسه):

سامحيني يا فرح...


داخل - غرفة محمد


بيدخل، يقفل الباب، يسند ضهره عليه، وكل اللي كان كاتمه ينفجر جواه.


بيرمي جاكيته على الأرض، يقرب من السرير، يقعد، يدفن وشه في إيديه...

الدموع بتنزل... لكن من غير صوت.

دموع راجل بيخاف على اللي بيحبها، وبيخبي عنها أكبر وجع في عمره.


محمد (بصوت مخنوق، بيتكلم لنفسه):

هقولك إزاي؟

هقولك إنك خلاص قربتي تكوني مراتي... وأنا نفسي مش ضامن أكون عريس ولا جنازة؟

هقولك إزاي إن حلمنا ممكن يضيع؟

أنا مش خايف من الموت... أنا خايف على دموعك.

خايف من كسرتك... خايف تشوفي اللي أنا شوفته.


(يسكت، وبعدين يهمس)

أنا بحبك... قوي... ومش هسيبك تشوفي اللي شافته أمي... بعد موت أبويا..


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


داخل - فيلا عماد - صباح اليوم التالي


عماد قاعد في الصالة، باين عليه التوتر. نازلي قاعدة قدامه، حاطة إيديها في إيده، ونبرتها حنونة ومشجعة.


نازلي (بلطف):

لازم تروح، يا عماد... لازم تحاول.

فرح محتاجة تسمعك، تفهمك.

أنت أبوها... ولما تعرف الحقيقة، حتى لو وجعتها، هتثق فيك في الآخر.


عماد (بصوت متردد، كأنه بيحارب خوفه):

خايف، يا نازلي...

خايف أبص في عينيها ألاقي كره...

خايف ترفضني، زي ما رفضت كل اللي حواليها.


نازلي (بإصرار هادي):

هتتعب شوية... أكيد.

بس لو سبتها دلوقتي، يمكن ما تديكش فرصة تانية.

دي بنتك، عماد... لازم تحارب عشانها.

اديلها فرصة تفهمك، وادّي نفسك فرصة تعيش دورك الحقيقي في حياتها.


عماد يسكت لحظة، ثم يهز رأسه باقتناع ويقوم.


عماد (بنظرة عازمة):

هروح...


،،،،،،،،،،،،،،،


داخل - فيلا أبو زيد - بعد قليل


صوت الجرس. الباب يتفتح، وعماد يدخل. يلاقي ليلى وإلهام في الصالة. إلهام تقف، وليلى تبص له بحدة.


ليلى (بجمود):

جاي ليه تاني؟

مش كفاية اللي حصل؟


عماد (بيقرب منها، وصوته فيه غضب مكبوت):

ليلى...

متنسيش إنك أنتي اللي حرمتيني من بنتي طول السنين دي.

فلو سمحتي... متعيشيش الدور كأنك الضحية الوحيدة.


يحوّل نظره لإلهام.


عماد (بهدوء):

ممكن تناديلي فرح؟

أو أطلع أنا لها؟


إلهام (بتنهيدة قلق):

هطلع أناديها...

بس مش متأكدة هتنزل ولا لأ...

من يوم اللي حصل، وهي مش بتخرج من أوضتها.


،،،،،،،،


داخل - غرفة فرح


فرح قاعدة على السرير، حضنا نفسها. الباب يطرق برقة، تدخل إلهام.


إلهام (بصوت هادي):

فرح... يا بنتي

عماد تحت...

مستنيكي.


فرح تسكت. تسرح لحظة، وبعدين تهز راسها.


فرح (بهدوء):

قولي له... جاية يا طنط 


،،،،،،،،


صالون الفيلا


عماد واقف. يسمع صوت خطواتها بتنزل على السلم. أول ما يشوفها، يقف بسرعة.


عماد (بابتسامة مرتبكة):

فرح... عاملة إيه دلوقتي؟


فرح تقعد بصمت. ملامحها جامدة، عينيها فيها وجع مكبوت.


فرح (بجمود):

ها... سمعاك.

اتكلم.


عماد ياخد نفس طويل، يقرب منها بحذر.


عماد:

أنا عارف صدمتك كبيرة... والوجع جواكي أكبر.

بس أنا ذنبي إيه؟

أنا ما كنتش أعرف إنك عايشة... ما كنتش أعرف إنك بنتي.


فرح (بحزن واتهام):

وذنبي إيه؟

ذنبك إنك صدقت...

ما دورتش...

ما سالتش.

لما قالوا بنتك ماتت... سألت؟

قلت فين الجثة؟

فين جنازتها؟

فين قبرها؟


عماد (بصوت مخنوق):

سألت... والله سألت.

قالوا راحت تحت الأنقاض، وماعرفوش يلاقوها.

قلت خلاص... راحت.

فاكرة إن ده كان سهل؟

ده قتلني كل يوم سنين.


يسكت لحظة، يرفع نظره ليها برجاء.


عماد:

بس أنا جيت دلوقتي...

عشان أقولك:

أنا بحبك، يا فرح...

أنا أبوكي، مهما حصل.

وهافضل جنبك لحد ما تثقي فيا وتحبيني من قلبك.


يقوم من مكانه، عينيه فيها دموع مش بيحاول يخبيها.


عماد (بهدوء):

خدي وقتك...

أنا هسيبك دلوقتي...

بس يا رب تيجي اللحظة اللي تقوليلي فيها: "يا بابا".

دي هتكون حياتي بدأت من جديد.


يخرج عماد، ويسيب فرح قاعدة في مكانها. تبص قدامه وهي مش قادرة تسيطر على مشاعرها... عينيها تدمع بس ما تبكيش، وتفضل تايهة في الدوامة اللي جواها.


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


غرفة الاجتماعات - بعد انتهاء أحد الاجتماعات - ظهر اليوم


القاعة فاضية إلا من محمد وفارس. أوراق الاجتماع لسه مرمية على الطاولة، والجو هادي إلا من صوت تنفسهم التقيل.

محمد قاعد في كرسيه، مائل بإيده على الطاولة، وشه مرهق وعينيه باين فيها السهر.

فارس قاعد جنبه، متردد شوية، بس بياخد نفس ويبدأ الكلام.


فارس (بصوت هادي لكن وراه وجع):

أنا منمتش الليل كله، يا محمد...

قاعد بدور على دكاترة... على أمل.

ودورت، وسألت، وكلمت ناس...

ولقيت دكتور كبير قوي في ألمانيا، بيشتغل على الحالات اللي زي حالتك.

مفيش وقت نضيعه...

لازم نسافر، يا صاحبي...

متستسلمش.


محمد يتنهد ببطء، وعينيه بتتهرب.


محمد (بصوت منخفض ومخنوق):

وأنا... منمتش الليل كله برضو، يا فارس.

بس كنت بفكر في حاجة تانية...

كنت بدور على طريقة...

طريقة تخلي فرح تسيبني بإيديها.

تبعد عني بإرادتها.

من غير ما أكسر قلبها بإيدي.


فارس بيقرب منه، صوته بدأ يعلى شوية وفيه غضب حزين.


فارس:

ليه؟ ليه بتعمل كده في نفسك وفيها؟

هي متستاهلش منك كده، يا محمد!

ولا أنت تستاهل الوجع ده.


محمد يلف وشه ببطء، ودمعة نازلة من عينه.


محمد:

أنا عارف...

بس أنت سمعت الدكتور...

حتى لو العملية نجحت...

في احتمالات كبيرة... مضاعفات...

شلل .. عما

أنا مش ممكن...

مش ممكن أخلي فرح تعيش معايا كده.

مش ممكن.


فارس يحط إيده على كتف محمد، ضغطته خفيفة لكنها كلها صدق.


فارس (بصوت فيه رقة وقوة):

مش لاقي حاجة أقولها، يا محمد...

ولا عارف أغير قرارك.

بس هقولك كلمتين بس:

أنت أدرى بحياتك،

وأعمل اللي يريحك.

وإن شاء الله تقوم بالسلامة...

وتعمل العملية، وتقوم أحسن من الأول.


محمد يهز راسه ببطء، وبصوته مكسور بالحزن:


محمد:

أنا هسافر...

بس قبل ما أسافر...

لازم أنهي حكايتي مع فرح.

أقفلها... بطريقتي.

قبل ما أبقى ذكرى تقيلة في حياتها.


فارس يزفر، وبصوت هادي لكن فيه حسم:


فارس:

لازم تسافر خلال أسبوع...

مش هينفع تتأخر أكتر من كده.

كل يوم بيعدي بيضغط على المنطقة دي أكتر... الدكتور قال كده.


محمد (وهو بيبص قدامه، ودموعه بتنزل بدون صوت):

قبل الأسبوع...

هكون برا مصر، يا فارس.


صمت يخيّم على الغرفة.

فارس ساكت، مش قادر يقول كلمة.

ومحمد، لأول مرة، باين عليه كأنه بيودّع مش بس أيامه... لكن كمان روحه.

  بينزل راسه في كفه... والفقدان مرسوم على ملامحه.


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


غرفة فرح - صباحًا


الغرفة ساكنة...

ضوء الشمس بيخترق الشباك بهدوء وينعكس على وجه فرح، اللي قاعدة على طرف السرير، لابسة بيجامتها، وشعرها سايب، وعينيها فيها آثار سهر وتعب أيام.


تتنهد بعمق...

وتتكلم بصوت خافت كأنها بتكلم نفسها:


فرح (بهمس):

كفاية كده...

كفاية حبسة... كفاية وجع.


تقف قدام الدولاب، تفتح الباب، تبص في هدومها...

تسحب بنطلون جينز وجاكت خفيف... تلبسهم بهدوء.

تسرّح شعرها وتلمّه بلُطف... تحط نقطة عطر خفيف.

وبنظرة فيها إصرار، تبص في المراية:


فرح (بصوت واطي):

هخرج... أتنفس... و أرجع زي ما كنت.


خارج - بوابة الجامعة - بعد قليل


فرح بتنزل من العربية، تشوف الجامعة اللي بعدت عنها من يوم الدراسة ما بدأت.

الطلبة بيدخلوا وبيضحكوا، الجو مليان حياة...

فرح تحس بشوية رهبة، لكن تكمّل تمشي بخطوات هادية.


حرم الجامعة - قرب المدرج


فرح ماشية بهدوء وسط الزحمة، تدور بعينيها على وجه مألوف...

وفجأة... صوت من بعيد ينادي:


ملك (باندهاش وفرحة):

فرح؟!


فرح تلف بسرعة...

تلاقي ملك واقفة، ووشها بينور من الفرحة.


فرح (بابتسامة مرتبكة):

ملك...


ملك (وهي تجري عليها وتحضنها):

أخييييرًا!

وحشتيني يا بنتي، أنا قلقت عليكي قوي.


فرح (بصوت مكسور شوية):

وانتي مكنتيش بتردي... حتى لما كنت باجي.


ملك (وهي تفك حضنها وتبص لها بحنية):

كنت زعلانة شوية... بس كنت خايفة عليكي أكتر.

وعرفت كل حاجة...

عارفة أن الدنيا اتشقلبت عليكي فجأة...

بس، فرح... بجد، لازم تخرجي من اللي انتي فيه.


فرح (بصوت حزين):

أنا مش زعلانة من اللي حصل بس... أنا حسيت إني مش عارفة نفسي.


ملك (بحنان):

بس في ناس بتحبك... بجد.

محمد وليلى ميقصدوش يأذوكي...

صدقيني، عملوا اللي كانوا شايفينه صح وقتها.

سامحيهم، وابدئي من جديد...

معاهم، مش ضدهم.


فرح تبص لها، وسكوتها علامة تفكير...

عينها تدمع، لكنها تبتسم ابتسامة خفيفة.


فرح (بصوت خافت):

مش عارفة أعمل إيه... بس وحشتوني.


ملك (وهي تمسك إيدها وتشدها بحماس):

يلا...

المحاضرة هتبدأ، وأنا عندي ليكي مفاجأة...


فرح (بدهشة):

مفاجأة؟!


ملك (بضحكة شقية):

الدكتور بتاع المحاضرة دي... مفاجأة من نوع خاص جدًا.


فرح تضحك، أول ضحكة صادقة من أيام، وتدخل معاها المدرج...


***********


بقلم / سمر الكيال 

حسناء الكيال 


** انتظروني البارت القادم **

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن الكاتبتين: حسناء الكيال وسمر الكيال

البارت الثالث .. منافس قوي

البارت الرابع .. بين الغياب و اليقين