البارت الرابع عشر.. شهر العسل

 رواية /           هل يكفي عمري لنسيانك ؟! 


بقلم / سمر الكيال 

        حسناء الكيال 



            *** البارت الرابع عشر***





مرّت عدّة أسابيع، استعادت فيها نازلي عافيتها بالكامل، وعاد الهدوء لفيلا عماد التي بدأت تنبض بروحٍ جديدة. كانت نازلي في إحدى الزوايا تُراجع تفاصيل بسيطة في دفتر ملاحظاتها، تكتب بخطها الأنثوي المنمق: "دعوات الفرح... آخر الأسبوع."


لم يكن حفلًا صاخبًا، بل وعدًا صغيرًا بحياة جديدة.


في الصباح، ارتدت نازلي فستانًا ناعم اللون، وشدت شعرها بخفة خلف رأسها، وتوجهت بسيارتها الخاصة إلى فيلا ليلى. هناك، فتحت لها إلهام الباب، بابتسامتها الدافئة كعادتها.


نازلي:

"أنا جيت مخصوص أشكركم... يوم الحفلة لما تعبت، ووقفتوا جنبي ."


إلهام، بلطف:

"دي حاجات ما تتقالش، يا بنتي. المهم إنك بقيتي أحسن دلوقتي." اتفضلي ادخلى...


ظهرت ليلى من خلف باب غرفة المعيشة، ترتدي ألوانًا حيادية تخفي ما في داخلها. كانت هادئة، متماسكة، لكن عيناها تحدثتا كثيرًا. اقتربت نازلي منها ومدّت يدها بثقة:


نازلي:

"أنا عارفة إن علاقتنا مش بسيطة... بس جايه أعزمك على فرحي أنا وعماد. آخر الأسبوع."


ترددت ليلى للحظة، ثم ابتسمت ابتسامة مجروحة، وأجابت بنبرة مهذبة:


ليلى:

"مبروك يا نازلي... أتمنى لكم الخير."


عين نازلي لم تفارق ليلى، لكنّها اختارت الصمت، وودّعتهن بودٍّ خفيف.


---


في ذات اليوم، دخل عماد مبنى الشركة بخطوات هادئة وثابتة. صعد إلى مكتب محمد، ووجده يراجع بعض الملفات.


محمد، بابتسامة:

"منور يا عماد بيه."


عماد، وهو يمد يده:

"جيت أعزمك على الفرح الصغير بتاعنا أنا ونازلي... آخر الأسبوع. دعوة شخصية."


محمد، وهو يرد التحية:

"مبروك يا عريس... دي مناسبة تستاهل نلبس بدل."


ضحكا قليلًا، ثم دارت بينهما بضع كلمات عن ترتيبات المشروع وحضور فارس، قبل أن يستأذن عماد ويغادر.


وفي طريقه للخروج، وبينما كان يعبر الممر المؤدي للمصعد، خبط في فتاة مقبلة نحوه بسرعة وابتسامة متألقة. تراجعت خطوة للخلف، وهي تقول باندهاش:


فرح، بخفة دمها المعتادة:

"ياااه... آسفة،"


رفع عماد عينيه، ودقّق النظر قليلًا.


عماد، متأملًا:

"أنا شوفتك قبل كده... صح؟"


فرح، وهي تحاول تتذكر:

"آه آه، ف حفلة توقيع العقود... كنت مع محمد."


عماد، باهتمام:

"صح... وانتي؟ بنت مين بقى من اللي كانوا هناك؟"


فرح، بابتسامة مرحة:

"ده موضوع كبير شوية. بس خليني أختصرلك... أنا فرح، خطيبة محمد شريك حضرتك، وبنت ليلى أبو زيد برضو... شريكتك التانية."


تجمّدت نظرات عماد للحظة. عادت له ذكرى قديمة... ليلى، وابنتها.


عماد، محاولًا كتم الدهشة:

"آه... تشرفت جدًا. ومبروك على الخطوبة."


فرح، بلطف:

"الله يبارك فيك."


عماد، وهو يمد الدعوة بيده:

"هبقى مبسوط لو جيتي فرحي"


فرح:

"أكيد... أنا اتشرفت بمعرفتك."


وتمضي بخطوات سريعة إلى باب مكتب محمد. تفتحه مباشرة، وعيناها تلمعان.


محمد، وهو ينهض من الكرسي:

"ياااه بالراحة شوية، مالك؟"


فرح، بضحكة مشبعة بالحماس:

"النتيجة ظهرت! جبت مجموع كبير... هندسة يا محمد! هندسة!"


تتسع عيناه من الفرحة، ويحتضنها بقوة، بكل الحنان المتراكم داخله.


محمد، وهو يهمس:

"فخور بيكي... مش بس عشان دخلتي كلية بتحلمي بيها، لا... فخور بيكي عشان انتي... انتي فرح."


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


داخل سيارة عماد - صامت سوى صوت أنفاسه]


كان سايق بهدوء... لكن ملامحه متجمدة. عينيه سارحة في الفراغ قدامه، بس عقله مكانش هنا.


عماد (بصوت داخلي):

"فرح... خطيبة محمد... وبنت ليلى؟

إزاي يعني؟ ليلى ما اتجوزتش بعد ما افترقنا... وأنا عارف ده كويس.

يبقى فرح... بنتها إزاي؟

لازم أكون فاهم غلط.

ولا في حاجة ماحدش قالهالي؟

فيه حاجة مش منطقية...

ليلى كانت دايمًا واضحة...

بس الموضوع ده مش بسيط...

أنا لازم أعرف."


يسحب نفس عميق، يحاول يركّز في الطريق، لكن عقله بيغلي بأسئلة.


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


في حديقة صغيرة مضاءة بفوانيس هادئة، وعلى نغمات موسيقى خافتة تعزفها فرقة صغيرة، اجتمع عدد محدود من المدعوين...

الهواء عليل، والمكان كله يهمس بالسكينة.


نازلي أطلت بفستان أبيض بسيط، بلا بهرجة، لكنه يشبهها تمامًا... أنثى راقية، ملامحها تنطق بالسلام، والفرحة تضيء وجهها.

عماد يقف إلى جوارها، أنيق في بدلته السوداء، وعينيه لا تفارقها، كأنها كل ما في الوجود.


محمد وفرح يجلسان على مائدة قريبة، يبتسمان بهدوء. أحمد السوهاجي يجلس بجوارهما، يراقب كل شيء بعينيه الحذرتين، وفارس لا يتوقف عن إطلاق التعليقات المرحة التي تنعش الأجواء.


عماد اقترب من نازلي، ومدّ لها يده بلطف:

تسمحيلي بالرقصة دي؟

نازلي ابتسمت، ووضعت يدها في يده كأنها كانت تنتظره منذ زمن.

رقصا معًا تحت أضواء خفيفة، خطواتهم منسجمة كأنهم يعرفون الموسيقى من قبل أن تبدأ.


محمد التفت لفرح، ومال عليها بهدوء:

دورنا بقى؟

فرح بخجل خفيف:

هنا؟

محمد وهو ينهض ويمد يده ليها:

وهنا أحلى مكان.


قامت فرح وأخذت يده. رقصا معًا رقصة هادئة، عينيها في عينيه، وكأن العالم كله اختفى.

من بعيد، كان أحمد السوهاجي يراقب، يحاول أن يخفي شيء في عينيه... لكنه لم يستطع.


عادوا بعدها إلى طاولتهم، وضحكة خفيفة على وجه فرح. ومحمد يضع يده على جبينة ..

فارس اقترب، وهو ينظر لمحمد بتركيز:

هو وشك كده ليه؟ تعبان؟

محمد، وهو يحاول يبتسم:

شوية صداع... مش أكتر.


فرح، بقلق واضح:

بجد؟ ولا في حاجة؟

محمد، وهو يطبطب على يدها:

متخافيش يا حبيبتي... بخير. بس ضغط اليوم يمكن.


محمد نظر في ساعته ثم التفت لفرح:

تعالي نبارك لعماد ونازلي قبل ما نمشي.


تقدّما بخطوات هادئة.

محمد صافح عماد بحرارة:

ألف مبروك يا عريس... تستاهل كل السعادة.

فرح ضمّت نازلي بلطف:

ربنا يتمملكم على خير... كنتي زي القمر.

نازلي:

وجودكم النهاردة فرّح قلبي بجد.


استأذنوا، وغادروا بهدوء، يد محمد تحتضن يد فرح كأنها العالم كله.


بعد قليل، خفّت الأصوات، وأُطفئت بعض الأضواء، وبقيت فقط تلك الذكرى... حفلة بسيطة، لكن دافئة. زفاف يشبه الحب الحقيقي... بلا بهرجة، لكن مليان صدق.


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

في الصباح، ضوء الشمس كان بيتسلل برقة من بين ستاير الصالة، الجو هادي، ورائحة القهوة لسه طازة على الطاولة.


محمد قاعد على الكنبة، حاطط كوعه على ركبته، وراسه بين إيديه. جسمه مفرود لكنه مش مستريح. ملامحه مرهقة، وعينيه شبه مطفية كأنه ما نامش كفاية، أو يمكن ما نامش خالص.


دخلت فرح بخفة وهي ماسكة كوب عصير، وابتسامتها على وشها، لكنها وقفت فجأة لما شافته.


قربت منه ببطء، ووقفت قدامه:

محمد... أنت كويس؟


رفع راسه ليها بسرعة، وابتسم ابتسامة مصطنعة وهو بيعدل جلسته:

أيوه يا حبيبتي، كويس. بس شوية دوخة كده... يمكن من قلة النوم.


فرح، وهي تقعد جنبه وتبص له نظرة كلها حنية:

إنت وشك شاحب... وفيه حاجة ف عنيك مش مريحة.

محمد: لا، لا... بس يمكن ضغط شغل. امبارح طول النهار واقف، وبالليل سهرنا في الفرح


فرح، وهي تمسك إيده وتضغط عليها برقة:

محمد... أنا فهماك، وعارفة إنك بتخبي. 


محمد، وهو يتنهد وينظر بعيد عنها:

متقلقيش... مفيش حاجة تستاهل خوفك. أنا بس محتاج راحة شوية... ووجودك جنبي كفاية.


فرح سكتت، 

رمت راسها على كتفه وقالت بهمس:

طب أوعدني إنك هتروح للدكتور لو التعب فضل كده.


محمد، وهو يطبطب على ضهرها برقة:

أوعدك.

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


في الجونة ..


كانت ليلة صيفية دافئة، والسماء فوق الجونة مرصّعة بنجوم ساطعة كأنها بتحتفل بيهم. ضوء القمر بينعكس على الميه، ونسمة خفيفة بتداعب ستائر الشرفة المفتوحة.


في الجناح الخاص بالفندق، نازلي كانت واقفة قدام الزجاج، لابسة روب أبيض حرير بسيط، شعرها سايب، وعينيها تايهة في البحر كأنها مش عايزة اللحظة تخلص.


دخل عماد بهدوء، وقف وراها، لف إيده حوالي خصرها وسند دقنه على كتفها وقال بصوت ناعم:


مش عايز أرجع…

سكت شوية، وكمل:

بس لازم نرجع.


نازلي بصت له من طرف عينها، وقالت بابتسامة هادية:


الرجوع مش معناه النهاية. الجونة كانت البداية… بس إحنا نقدر نعيش العمر كله كأنه شهر عسل، لو فضلنا نحب بعض كده.


لف عماد نازلي ناحيته، بص في عينيها، وقال وهو بيلمس خدها بلطف:


أنا آسف… سايب الشغل عليهم في القاهرة بقالنا أسبوعين .

  عماد…

  أيوه؟

  أنا عمري ما حسيت إن فيه وقت كفاية معاك… ولو العالم كله مستنينا، أنا هفضل أختار اللحظة دي… اللحظة اللي إنت فيها، قدامي، وبتحبني.


قرب منها أكتر، لمس جبينها بجبينه، وقال بهمس:


  لو كان فيا أوصفك كنت قلت إنك الهدية اللي جت بعد عمر من التعب.

سكت شوية، وصوته واطي أكتر:

  وكل يوم هعيشه معاك، هعيشه كأنه أول يوم… وكأنه آخر حلم.


حضنها بقوة، ونازلي سندت راسها على صدره، قلبها بيدق بنفس هدوء الموج في الخارج.


وبعد لحظة صمت فيها كل شيء، رفعها بين إيديه كأنها كنز، وقال وهو بيبص في عينيها:


نازلي… اللي بينّا مش وقت، دي حياة كاملة، وقلبي… انتي بيتي.


ضحكت من قلبها، وبحب خالص همست:


  خُدني عالبيت ده كل يوم.


ومع ضوء الشموع، وانعكاس البحر، ودفء حضنه، كان وداع الجونة هو بوابة لحياة كلها عسل.


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


اتفتحت بوابة الفيلا بصوت خافت. دخلت السيارة ببطء، وتوقفت عند المدخل. عماد نزل أول، لف وفتح لبابها. نازلي نزلت بهدوء… كانت لابسة حاجة بسيطة ومريحة للسفر، وشعرها مربوط بخفة.


وقفوا قدام باب الفيلا.


عماد (بصوت واطي، فيه حنين):

–رجعنا.


نازلي (بابتسامة خفيفة):

بس أنا حاسة إن الرحلة لسه جوايا.


فتح الباب، ودخلوا. البيت كان ساكن، دافي، كأنه حافظ ريحتهم.


عماد (وهو بيحط الشنطة جنب الباب):

الجو هنا مختلف.


نازلي (بصوت شبه همس):

يمكن عشان أول مرة بندخله كزوجين.


قعدت على طرف الكنبة. عماد راح جاب كوبين مية من المطبخ، رجع وقعد جنبها، ناولها الكوب.


شربت شوية، وبصت له.


نازلي:

شكراً… على كل لحظة.


عماد (عينه ما سابتش عينيها):

انتي اللحظة اللي بستناها من سنين.


سكتوا. مفيش كلام كفاية يوصف اللي بينهم. قرب منها شوية، لمس إيدها.


عماد (بهدوء):

تعبانة؟


نازلي (تهز راسها بنفي):

لأ… بس مش عايزة اليوم يخلص.


ابتسم. لم يرد. بس قرب منها، طبطب على يدها، وقام بهدوء.


عماد:

تعالي نرتاح… بكرة يوم جديد.


وقفت معاه. طلعوا سوا على السلم، خطواتهم بطيئة، لكن مطمئنة.


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


دخل عماد الشركة بابتسامته الهادية المعتادة، وهدوء شخص رجع من أجمل أسبوعين في حياته. الموظفين بيباركوا، وهو بيرد بكلمات رقيقة، وعيونه بتدور على وجه مألوف.


وصل لمكتب محمد، اللي كان مستنيه واقف، بيستقبله بحفاوة الأخ والصديق:


محمد (وهو بيحضنه):

حمدالله على السلامة يا عريس! نورت الشركة.


عماد (بنبرة فيها مودة ولمحة خبث خفيف):

النور كله يا محمد بيه… سمعت إن في خطوبة حصلت وأنا مش هنا؟


محمد (يبتسم وهو بيقعد):

آه… حصلت بسرعة كده. فرح بالنسبالي كانت دايمًا مميزة… بس دلوقتي بقت نصي التاني.


عماد (بضحكة خفيفة):

واضح إنك لاقيت كنز.

(يتوقف للحظة، وبنبرة مرصودة):

الغريبة إن ساعة ما اتعرفت على خطيبتك… قالتلي إنها بنت ليلى.


سكون.

محمد حس بجملته زي حجر وقع في بحر ساكن. ارتبك… بص بعيد… حرك جسمه على الكرسي.


محمد (بصوت هادي ومرتبك في نفس الوقت):

آه… فرح… هي فعلاً… بنت ليلى.


عماد (بيركز في تفاصيل وجهه، ونبرته أهدأ من اللازم):

بس أنا فاكر كويس إن ليلى من ساعة طلاقنا ما خلفتش…

(يسكت لحظة، وبعدين يكمل وكأنه بيقفل السؤال):

هي ليلى خلفت إمتى، يا محمد؟


********************


بقلم / سمر الكيال 

        حسناء الكيال 


                    ** انتظروني البارت القادم **

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن الكاتبتين: حسناء الكيال وسمر الكيال

البارت الثالث .. منافس قوي

البارت الرابع .. بين الغياب و اليقين