النهايه.. ما بين طيفك و نظراته

 رواية / هل يكفي عمري لنسيانك ؟! 


بقلم / سمر الكيال 

حسناء الكيال 


***البارت الرابع والعشرون***


غرفة محمد

فرح قاعدة على الأرض، ظهرها للحائط، والمذكرات مفتوحة في حضنها.

عيونها باهتة، وجفونها وارمة من كتر البُكا.

كأن الكلام اللي قريته فجّر فيها كل ألم كانت بتحاول تهرب منه.

تشهق شهقة وجع وتهمس:

"ليه؟ ليه خبيت عليا؟ أنا كنت مستعدة أكون جنبك لآخر لحظة... كنت همسك إيدك ومش هسيبها أبدًا هنت عليك تمشي من غير وداع .. أنا ملحقتش حتى أحضنك ."

تبكي بحرقة، دموعها سايبة بدون صوت، زي نهر مالوش ضفة.


تقف وهي بترتعش، تبص حواليها كأنها بتودّع كل ركن لمحه فيه، ضحك فيه، حضنها فيه.

تمسك مفتاح عربيتها وتخرج من الفيلا... تايهة.


--

في الطريق - فلاش باك


فرح نازلة من على السلم في بيت عماد.

صوت مكالمة جاي من غرفة المعيشة... صوت عماد متغير:

"إيه؟!... لا حول ولا قوة إلا بالله... محمد مات امتى وازاي؟!"

فرح تتوقف في مكانها، ضربات قلبها بتعلى.


تدخل بخطوات مهزوزة:

"بابا؟ محمد مين اللي مات؟"


عماد يسكت، عينه تدمع وهو مش قادر يواجهها.

"فرح... حبيبتي، خليكي مؤمنة... الأعمار بيد الله..."


"لاااااا!"

تصرخ صرخة تشق قلبها قبل ما تشق المكان.

"مش ممكن... مش محمد... مش هو... ده وعدني! مش هيسيبني... مش هيكسرني كده!"

تقع على الأرض وهي بتنهار، ترجع تحضن نفسها وتكرر بضعف:

"أنا كنت مستنياه... أنا كنت مستنياه..."


---


المقابر - جنازة محمد


الناس كتير، بس الصمت بيغلف الكل.

الكل باين عليه الوجع، بس الهام صوتها واصل للسماء من العياط.

ليلى مكسورة، ملامحها مش بتتحرك... شاخصة في الفراغ.


فرح واقفة وسطهم، بس كأنها مش موجودة.

كأن روحها مسبوقة للنعش اللي قدامها.

وهي شايفة الجثمان بيتشال، بتصرخ:

"لااااااااااااااااا! متحطوش عليه تراب! كدة مش هعرف اشوفوا تاني! بلاش! محمد... يا محمد!"


فارس وأحمد السوهاجي بيشيلوا الجثمان بخطوات تقيلة كأن كل واحد شايل عمره على كفه.

فرح بتتخبط في الناس عشان توصل، وعماد ونازلي ماسكينها بالعافية.


"بقولكوا متعملوش كده! متدفنهوش! أنا لسه مشبعتش منه !"


كل لحظة التراب بتنزل على النعش... بتنزّل معاها حاجة من روحها.

وفي لحظة، فرح تصرخ وتنهار... جدران الدنيا بتتهد في عينها،

وتفقد الوعي وهي في حضن أبوها، وعماد يصرخ:

"فرح! حد ينادي الإسعاف بسرعة!"


---


المستشفى


ضوء أبيض ساطع، نازلي ماسكة إيدها، وعماد قاعد جنب السرير.

فرح نايمة في غيبوبة انهيار عصبي، وجهها شاحب، وقلبها غايب.


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


المقابر / عند قبر محمد


الجو مغيّم، والنسمة باردة كأنها جاية من قلب الحزن نفسه.

فرح نازلة من عربيتها بخطوات بطيئة، وفي عينيها دموع متحجّرة من كتر البكا، بس لسه بتنزل.

تدخل المقابر، وعينيها تلمح الاسم المكتوب على القبر: "محمد أبو زيد"


قلبها يرجف، ودنياها بتتهز تاني، تركع بهدوء على حافة القبر،

تمد إيدها وتلمس التراب كأنها بتلمسه هو.


تتنفس نفس طويل بيطلع شهقة:


"ليه؟ ليه خبّيت عليا؟ ليه عملت فيا كده؟

كنت بقولك اوعي في يوم تسيبني وكنت دايما توعدني ،

بس انت اخترت تبعد... تسيبني للوحدة والحنين..."


تبدأ دموعها تنزل بهدوء وهي بتكمل:


"انت وحشتني أوي يا محمد...

فكرك بعد السنين دي الوجع هدَى؟

الوجع سكن، والحنين ما بينامش...

كل يوم حاجة تفكرني بيك،

ضحكتك، صوتك، حتى ريحة عِطرك اللي كانت سايبة أثر ف أوضتك."


تلمس التراب بقلبها قبل صوابعها وتهمس:


"مش انت اللي كنت دايمًا تقولي

(ازاي تقول أنساك؟ واتحول؟ وأنا حبّي ليك أكبر من الأول؟)

طب قولي دلوقتي يا محمد، ازاي أنساك؟"


آه... لو تعرف حصل فيا إيه بعدك... كنت بروح لدكتور نفسي عشان اعرف أعيش في دنيا انت مش فيها 

كنت عايشة زي الآلة... 

في البيت، الجامعة، الشغل... 

حتى لما مسكت الشركة اللي كان نفسك تكبرها،

عمري ما نسيت يوم واحد معاك،

كل زاوية هناك بتحكي عنك، كل ورقة كنت بتكتب فيها، كل ضحكة بينا."


تبتسم بسمة باكية، وتهمس:


"لو كان في طريقة للنسيان...

طب كنت قولتلي عليها قبل ما تمشي."


تطلع من شنطتها دفتر صغير... الأچندة اللي سابها،

تحضنها، وتقول:


"انت حكيتلي كل حاجة،

بس ما قلتليش أنساك إزاي؟

يا حبيبي...

وحشني نفسك، وصوتك، ولمستك، ونظرة عنيك..."


تبكي بحرقة، وتشد نفسها تكمل:


"كل يوم بدعيلك،

ربنا يرحمك، ويجمعني بيك ف الجنة...


أنا هعمل اللي طلبته،

وهسامح ليلى... وهاروح أشوفها وأطمنها،

بس طلبك التاني...

إني أحب حد بعدك...

وأتجوز؟"


تصمت، وبصوت مخنوق:


"مش عارفة أعملها إزاي...

من يوم ما سبتني، وأنا عندي سؤال واحد

هل عمري كفاية... لنسيانك؟"


تطول لحظة الصمت...

وترفع راسها للسماء، كأنها بتستنّى رد...

لكنها تلاقي بس سكون المقابر بيرد بالصدى.


تمسح دموعها، وتهمس:


"مع السلامة يا عمري... "


فرح لسه قاعدة على الأرض، إيديها في التراب، عينيها مبحلقة فـ الاسم اللي محفور على القبر...

"محمد أبو زيد"

كل خلية فيها بتنزف، وكل ذرة هوى بتتنفسها بتخنقها.


وفجأة...

يد دافئة تتحط على كتفها.


ترمش ببطء وتلف وشها...


أحمد السوهاجي.


كان واقف باين عليه أنه تعبان، لكنه موجود... ثابت.


أحمد بصوت ناعم، حزين:

"كنت عارف إني هلاقيكي هنا..."


فرح ترفع عنيها ليه، والمية فيهم بتلمع 


فرح بهمس مبحوح:

"أنت؟! إيه اللي جابك هنا؟"


أحمد بهدوء:

"باباكي لما ماعرفش يوصلك، وفارس قاللي إنك عرفتي إن مامتك تعبانة...

كنت عارف، عارف إنك مش هتروحي مكان غير هنا."


(صمت... فرح تبصله، وبعدين تبص للقبر تاني.)


يمد أحمد إيده بهدوء:


"القعدة هنا مش هتغيّر حاجة يا فرح...

يلا، الوقت اتأخر."


تبص للقبر، وتمس التراب بإيدها، تضمه بكفوفها كأنها بتحضنه...

وتبص لأحمد، عينيها كلها ألم...

لكنها تقوم وتتمسك بإيده.


يمشوا سوا بخطوات بطيئة...

ويوصلوا لعربيته.

فرح رايحة تفتح باب عربيتها، لكنه يوقفها بلطف:


"مش هينفع تسوقي...

أنا هوصلك، وعربيتك أبعتها الصبح."


تركب جنبه في العربية...

صمت ثقيل يملأ الجو...

بس فرح تقطعه بعد وقت:


فرح بصوت مخنوق:

"ليه ماقولتش؟

ليه ماقولتش إنه جالك؟

وإنه مريض؟

وإنه... بيموت؟"


أحمد يتوتر... يمسك الدركسيون بأصابعه بقوة:


"مكنتش أقدر... أخلف وعدي معاه.

أنا آسف."


تتحول ملامحها لغضب هش ممزوج بانكسار:


"كنت تقدر تقول...

أنا عارفة إنك بتحبني...

بس لو أنت مكان محمد،

كنت هتحب إنه يخبي؟"


أحمد يتنفس ببطء... يبصلها لحظة وهو سايق:


"كلامك... بيوجع.

بس لو فعلاً أنا كنت مكان محمد،

كنت هتمنى أخبي برضه...

لأن الحب ساعات بيخلي الواحد يختار الوجع لنفسه،

بس مش للي بيحبهم."


فرح تحني راسها، صوتها يترعش:


"أنا آسفة...

أنا مش عارفة بقول إيه...

اللي عرفته النهاردة كتير عليا...

كتير أوي...

وشكرًا...

عشان كنت جنبي فـ أكتر وقت أنا ضعيفة فيه."


أحمد بصوت هادي جدًا، فيه صدق نقي:


"أنا مش عارف إنتي عرفتي إزاي،

بس اللي متأكد منه...

إني ماكنتش جنبك عشان محمد طلب كده...

أنا جنبك...

عشان مش قادر أكون في حتة غير جنبك."


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


بعد عدة أشهر .. اتغير فيها حاجات كتير


في حديقة الفيلا - مساء هادئ دافئ


بعد سنين من الغياب، والوجع، والكلام اللي ما بيتقالش...

رجعت الروح، بشويش، لملامح فرح.


الفيلا مضاءة بأنوار خفيفة، وزينة بسيطة لكنها أنيقة...

صوت موسيقى ناعم بيملأ الجو،

والكل فـ الجنينة مستني.


فرح رجعة من يوم طويل فـ الشغل،

تفتح باب البيت...

تلاقي الصمت، تستغرب...

لكن لما تدخل الحديقة الخلفية،

النور يشتعل فجأة، وتتعالى الأصوات:


"مفاجأة!!!"


تتجمد مكانها...

كل الوجوه اللي بتحبها واقفة قدامها:

باباها عماد، نازلي، ليلى، إلهام، وأحمد السوهاجي...

كل واحد فيهم شايل وردة أو بلونة أو كوباية عصير وابتسامة.


فرح تضحك من قلبها لأول مرة بجد من سنين.

تجري تحضن ليلى...

"بحبك أوي يا ماما... "

تحضنها ليلى والدموع في عينيها:

" كل سنه وانتي طيبه يا قلبي"


تروح لإلهام، تحضنها، تبوس راسها:

" وحشتيني يا طنط"

إلهام: " كل سنه وانتي طيبه يا بنتي"


تحضن عماد ونازلي بحب وامتنان...

ثم يتجه الكل نحو الترابيزة،

وعليها تورته جميلة عليها شموع بتترجف من نسمة ليل لطيفة.


نازلي تضحك:

"يلا يا فرح... اتمني أمنية."


فرح تغمض عينيها...


وهنا، يتغير كل شيء.


في لحظة سكون...


تحس كأن الهوا نفسه بيندهها بصوت محمد.

صوته، ناعم، رقيق، دافي:


"كل سنة وانتي طيبة... يا حتة من قلبي."


تحس بأنفاسه...

كأنه واقف وراها،

تتخيل طيفه وهو بيقرب، يبوس خدها بلطف،

ويهمس:


"أمنية عيد ميلادك؟

ادّي لقلبك فرصة...

قربي من أحمد... هو بيحبك بجد."


دمعة صغيرة تنزل من عينها...

تفتح عينيها ببطء،

تلاقي أحمد واقف قدامها، بيبصلها بنظرة مشفتهاش قبل كده...

أو يمكن كانت دايمًا هناك، وهي بس ماخدتش بالها.


يقرب منها،

أحمد بابتسامة خفيفة وسؤال ساخر ولطيف:

"مش ناوية تحني عليّا؟

بعد السنين دي كلها...

مش هتدي لحبي ليكي فرصة؟"


تبصله...

تضحك، ودمعتها لسه بتلمع،

ترد عليه بنظرة كلها وضوح:


"أنا ابتديت ألاحظك...

يمكن دي أول مرة...

ويمكن أنا اللي اتغيرت، وبقيت أشوف."


يضحك أحمد وهو بيقدم لها كوباية عصير:


"كفاية إنك بتشوفي... أنا مستني من زمان."


وتنتهي روايتنا

والضحكة الحقيقية لأول مرة من قلبها،

والنور الناعم بينور وشها،

وهي لسه حاسة إن محمد... حاضر، حتى لو غايب.


،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،


في نهاية الحكاية...


لا أحد يشفى تمامًا من الحب...

ولا أحد ينسى من كان له وطنًا قبل أن يكون حبيبًا.


فرح عاشت، كبرت، اتوجعت، وقامت على رجليها من جديد...

بس عمرها ما نسيت، عمرها ما نسيت محمد.


أوقات الحياة بتاخد مننا ناس مش بس بنحبهم، لأ... دول كانوا إحنا.


لكن لو فِراقهم علمنا نحب أكتر، نسامح أكتر، نعيش أصدق...

يبقى هما ما مشيوش، هما فضلوا جوانا...


الحب الحقيقي ما بيموتش.

بيغيّر شكله، بس ما بيروحش.


محمد اختفى من الحياة، بس ما اختفاش من القصة...

لأنه كان القصة.


لكل قلب بيقرأ دلوقتي...

لو خسرت حد بتحبه،

متفتكرش إنك لوحدك.

فيه قلوب كتير بتخبط جوّا صدورنا، ولسه بتقول أسماء اللي مشيوا كل يوم قبل ما ننام.


وصدقني...

فيه ناس لو حتى ماتوا، بيعيشوا جوانا طول العمر.


***********


بقلم / سمر الكيال 

حسناء الكيال 


إلي اللقاء في حكاية أخرى إن شاء الله ......

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عن الكاتبتين: حسناء الكيال وسمر الكيال

البارت الثالث .. منافس قوي

البارت الرابع .. بين الغياب و اليقين