البارت السابع عشر.. ظهور الحقيقة
رواية / هل يكفي عمري لنسيانك ؟!
بقلم / سمر الكيال
حسناء الكيال
**** البارت السابع عشر ****
اليوم التالي للخطوبة ...
النهار لسه بيطلع، والهدوء الكثيف لمدينة نايمة كأنه بيغلف صدر عماد اللي مغمضش عينه طول الليل.
نازلي نايمة في سلام، وعماد واقف قدام الشباك في بيته، عيونه سهرانة، وروحه مش مستقرة…
كان لازم يعرف… ولازم يرجع للمكان اللي قفله جواه من سنين طويلة.
ركب عربيته، وفضل ساكت طول الطريق.
الشارع اللي فيه الشقة القديمة بقى غريب عليه، مع إنه حافظ كل حجارته.
وصل، طلع السلالم بهدوء…
عماد بيقف قدام باب شقته القديمة، المفتاح بإيده بس مابيقدرش يدخله في القفل بسهولة.
أنفاسه متلاحقة، زي حد راجع يواجه ماضي كان بيهرب منه لسنين.
يدخل…
ريحة الزمن القديم تضربه فجأة.
الأتربة، الأثاث المتهالك، والهدوء اللي بيوجع.
خطواته بطيئة، كل ما يقرب من أوضة النوم، قلبه يدق أسرع.
يفتح الباب…
النور الخفيف اللي داخل من الشباك بيغطي المكان بطبقة شاحبة من الحنين.
كأنه داخل ضريح لجزء منه مات ودفنه بإيده.
يتجه ناحية التسريحة…
يفتح الدرج اللي عمره ما قرب له من سنين.
يسحب صندوق خشبي صغير، خربشات على غطاه، وإيده ترتعش.
يفتح الصندوق…
صور، أوراق، أساور صغيرة، وميدالية قديمة.
يبعد كل ده، ويمد إيده لصورة بعينها…
يشدها ببطء كأنه بيخرج شريان من قلبه.
الصورة:
طفلة عندها حوالي عشر شهور.
واقفة وهي بتسند على الكنبة، لابسة فستان أبيض بسيط، شعرها ناعم وباين فيه خصل سودة ملتفة على خدها.
ضحكتها… ضحكة طفلة حقيقية، من القلب، فيها براءة الدنيا كلها.
لكن عين عماد مش بتشوف غير حاجة واحدة…
وحمة
صغيرة… واضحة… على الكتف الشمال، نفس الوحمه بالظبط اللي شافها على كتف فرح.
توقف الزمن.
عماد بقى تمثال…
إيده بتترعش، عينه ما بتطرفش، وشفايفه تهمس:
"ليلى…"
الاسم مكتوب بخط إيده القديم على طرف الصورة:
"ليلى.
ينزل يقعد على طرف السرير، يفضل يبص للصورة… يقربها من وشه، يلمس الكتف، كأنه بيتأكد.
"مستحيل… دي نفس الوحمة… نفس الضحكة… نفس العيون."
تنهيدة بتقطع صدره، ودموع نازلة بغزارة لأول مرة من سنين.
شهقة بتخرج منه غصب عنه، صافية… زي شهقة شخص اكتشف إن روحه اتخدعت.
يحط الصورة على صدره، عيونه مقفولة، وصوته بيطلع بالكاد:
" لو اللي في بالي صح ، والله ما هرحمك يا ليلى ."
يقوم من مكانه، يمشي في الأوضة…
يبص في المراية القديمة… يشوف ملامحه، تعبان، بس النهارده عيونه مشتاقة، ومرعوبة في نفس الوقت.
يمسك الصورة تاني…
"إزاي؟… إزاي تكون هي؟ وليلى قالتلي إنها…"
يسكت، الصوت بيخونه، والدموع بتكمل مكانه.
يخرج الصورة من بروازها، يطويها بحنية ويحطها في جيبه الداخلي.
يتجه للباب، يفتحه بهدوء…
بس قبل ما يخرج، يبص للمكان نظرة أخيرة، ويهمس:
"لو اللي ف دماغي صح… كل حاجة هتتغير."
يخرج ويقفل الباب وراه.
*******************
فيلا ليلى أبو زيد – بعد الظهر
بعد وقت قليل من مغادرة عماد شقته القديمة، وعودته بحقائق تقلب كل شيء.
يُفتح باب الفيلا فجأة.
الخادمة كانت على وشك أن تسأل، لكن عماد دخل بخطوات سريعة، وجهه مشدود، وصوته يسبق حضوره:
عماد (بصوت غاضب متماسك):
فين ليلى؟!
ما استناش رد، وبدأ ينادي، صوته بيعبر عن قلق واحتقان عمره سنين:
عماد:
ليلى! ليلى!
إطلعي! أنا مش خارج من هنا من غير رد!
يدخل الصالون بعنف محسوب...
كانت ليلى جالسة مع إلهام، بيشربوا الشاي في صمت شبه يومي.
الهدوء اتحطّم بلحظة.
ليلى (بانفعال حاد وهي بتقوم واقفة):
إيه اللي بتعمله ده؟! داخل كده من غير إذن؟!
عماد (يتقدّم بخطوتين، نبرته قاطعة):
هسألك سؤال واحد... واحد بس، وعايز إجابة أخيرة.
ليلى (بتحاول تحافظ على هدوئها):
إحنا قفلنا المواضيع القديمة من زمان.
عماد (يطلع صورة من جيبه، ويمدّها بإيده المرتعشة، عينه مبحلقة فيها):
فرح... بنت مين؟
ليلى كانت بتاخد النفس، لكن أول ما وقعت عينيها على الصورة...
اتغيّر كل شيء.
الصورة فيها طفلة عمرها حوالي 10 شهور، ملامحها مألوفة... جدًا. نفس عيون فرح. نفس الشَعر. نفس البسمة الصغيرة. وعلى كتفها الشمال... الوحمة.
ليلى (بهمس مختنق):
دي... دي...
عينها زاغت، وتعبيرات وشها وقعت، وفضلت تبص للصورة وكأنها رجّعتها سنين ورا. إيدها نزلت، والصورة وقعت منها على الأرض.
جلست فجأة على الكنبة، كأن الأرض بتتهز تحت رجليها.
صوتها طالع مخنوق، وأنفاسها سريعة.
إلهام (تقوم بسرعة):
ليلى! مالك؟!
عماد (صوته بدأ يضعف... لكنه لازال مصمّم):
دي... ليلى.
بنتي... سميتها على اسمك.
الوحمة دي... الوحمة دي اللي كنت كل يوم ببوسها وأنا شايلها ف حضني.
ليلى (بصوت واطي جدًا... ومرعوب):
جبت الصورة دي منين؟!
عماد (بحسم):
من أوضتي القديمة...
من المكان اللي دفنت فيه كل حاجة... إلا إحساسي إن بنتي لسه عايشة.
سكت لحظة... قرب منها أكتر، بص في عينيها مباشرة:
عماد (بهدوء مرعب):
هسألك سؤال أخير يا ليلى...
ليلى... تبقى فرح؟
ليلى ماقدرتش تنطق.
شفتاها ارتجفت، بس الصوت ما طلعش.
عماد (بصوت أعلى، موجوع):
ليلى تبقى فرح؟!
انطقي!
ليلى قامت بهدوء... ومشيت نحوه، عينيها مليانة دموع مش بتنهار، لكنها بتوجع.
قربت منه، دفعت كتفه بخفة وهي ماشية جنبه... وراحت ناحية السلم.
فرح في اللحظة دي كانت نازلة من فوق، شافتهم بالصدفة، لمحت التوتر، قربت بخطوات بطيئة.
فرح (بقلق):
في إيه؟
في حاجة حصلت؟
ليلى بصّت لعماد نظرة تحذير، رجاء، واستجداء ما يتكلمش.
وبصّت لفرح، وابتسمت رغم الدموع:
ليلى (بصوت ثابت مصطنع):
مفيش يا حبيبتي...
كنا بنتكلم في شغل بس.
عماد فضل ساكت، عينيه على فرح... قلبه بيصرخ، بس لسانه مربوط.
فرح مشيت من غير ما تفهم، لكنها حسّت بحاجة مش طبيعية.
إلهام كانت واقفة مذهولة، ما بتقولش حاجة.
ليلى
ده مش وقتك، ولا مكانك، يا عماد.
تمشي... وتسيبه، وتسيب الحقيقة المعلقة في الهوا... واللي جاية زي زلزال.
عماد واقف في النص، بين صدمة الصورة، ونظرة فرح... ونظرة ليلى اللي بتنهار من غير ما تنهار.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
شركة محمد — المكتب الخاص بمحمد
بعد الظهر، يوم عمل مزدحم
محمد وهو قاعد على المكتب، كفه ماسك رأسه، وصوت نفسه تقيل...
الصداع بقى رفيقه، التعب مش سايبه، بس هو بيقاوم كعادته... بيكتب، بيراجع أوراق، بيكلم موظفين، بس ملامحه شاحبة، وعينه فاضية.
يدخل فارس فجأة وهو ماسك ملف:
"محمد... فيه توقيع محتاجين نخلّصه النهارده، والمحاسب مستني برا."
محمد (بيرفع عينه بالعافية، وصوته مبحوح):
"هات الملف..."
فارس يقرب، يلاحظ إيده بتترعش وهي بتمسك القلم...
يسكت لحظة، وبعدين يقعد قدامه.
فارس (بهدوء وقلق):
"محمد... وشّك مش طبيعي. فيك إيه؟"
محمد (يبتسم ابتسامة واهية):
"مفيش... شوية صداع من قلة النوم بس."
فارس (نبرته جدّية):
"مش أول مرة تقول كده، وبعدين أنا صاحبك مش موظف عندك. صداع إيه اللي بقاله أسبوع؟ وشك مصفر، وبتتهرب من أي تحليل أو دكتور!"
محمد (يحاول يضحك):
"بلاش دراما يا فارس، الشغل كتير، وأنا محتاج أركز دلوقتي... هبقى أروح لدكتور آخر الأسبوع."
فارس (بعينين فيها لهفة):
"محمد... ده مش وجع شغل. ده وجع بني آدم تعبان وبيحاول يستخبى من نفسه."
محمد يسكت... يحط القلم، ويسند ضهره على الكرسي...
يبص للسقف، ياخد نفس طويل، وبعده يقول بصوت واطي:
"أنا فعلاً مش طبيعي يا فارس...
حاسس بحاجة غلط... بس مش عايز أصدق.
مش عايز أصدق إنها رجعت تاني."
فارس (يقوم من مكانه ويقرب):
"رجعت؟ تقصد إيه؟ أنت بتتكلم عن...؟"
محمد يهز راسه بنعم.
الصمت يسيطر...
الخوف يملأ عيون فارس.
فارس (بصوت منخفض):
"عملت تحاليل؟"
محمد (بهمس):
"لا... خايف أعملها."
فارس (بحسم):
"يبقى تقوم دلوقتي نروح سوا.
لو بتحب فرح فعلاً... لو بتفكر فيها... لازم تواجه."
محمد (بعينين فيها وجع):
"أنا بحبها أكتر من روحي...
وعشان كده... مش عايزها تمر بنفس اللي أنا مريت بيه.
مش عايزها تبكي عليا... زي ما بكيت أنا على أبويا."
فارس يسكت شوية، وبعدين يقول له:
"بس يا محمد... الهروب مش بيحمي اللي بنحبهم.
المواجهة هي اللي بتحميهم."
محمد يبص له، ينهض من على الكرسي، ببطء...
"ماشي يا فارس... نروح. بس ما تقولش لفرح حاجة.
مش دلوقتي."
فارس يربّت على كتفه، ويقوله:
"وعد."
بعد قليل
ومحمد واقف جنب فارس قدام المكتب، بيحضّر نفسه يروح للدكتور يعمل التحاليل. فارس بيقفل اللابتوب، بيبص على محمد بابتسامة باهتة فيها قلق:
فارس:
"جاهز؟ العربية مستنياك تحت."
محمد (يحاول يبتسم):
"يلا بينا... نخلص ونتطمن."
قبل ما يتحركوا، فجأة… الباب يفتح بعنف، بدون استئذان.
ليلى بتدخل بخطوات مش ثابتة، ملامحها منهارة، عينيها باين فيها البكا من بعيد، وشها مصفر ومرعوب.
محمد يتجمد في مكانه:
"ليلى؟! في إيه؟!"
ليلى (وهي بتنهار قدامه حرفيًا، بصوت مبحوح):
"مصيبة يا محمد... مصيبة!"
فارس بيجري ناحيتها:
"ليلى مالك؟! في إيه؟ اتكلمي؟!"
ليلى بصوت متقطع، من بين شهقاتها:
"بنت عماد... بنت عماد!"
محمد بيقرب خطوة، عينيه متسعة:
"مين بنت عماد؟! إنتِي بتقولي إيه؟!"
ليلى تنهار أكتر، وتصرخ:
"فرح! فرح طلعت بنت عماد!!"
بتقع على الأرض فجأة، بتنهار بالكامل، دموعها بتغرق وشها، صوتها مخنوق، صدرها بيعلو ويهبط بسرعة، وكأنها اتخنقت بالحقيقة اللي خرجت فجأة.
فارس بينزل جنبها، بيحضنها وبيحاول يهدّيها، إيده على كتفها وبيهمس لها:
"اهدي يا ليلى... اهدي، إحنا معاكِي."
لكن محمد...
واقف مكانه كإنه حجر.
نفسه مقطوع، نظراته مجمدة، كل عضلة في جسمه متشنجة.
عينيه بتتحرك ببطء من ليلى لفارس، وبعدين للسقف، كأنه بيحاول يستوعب... بس مش قادر.
كلمة "فرح" بتدوي جواه، و"بنت عماد" بتقلب كيانه.
صمت ثقيل يسيطر على المكتب.
فارس بيحضن ليلى على الأرض، وهي لسه بتبكي.
محمد واقف، سكونه مرعب، عينيه بتلمع… مش بالدموع، لكن بالوجع.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
تنزل "فرح" على مهل من السلم، مرتدية بيچامتها البيضاء، شعرها منسدل.
تلتفت برأسها لتجد "إلهام" تجلس على الكنبة في الصالة، تحدّق في اللا شيء، شاردة تمامًا.
تتوقف فرح عند آخر درجات السلم وتنظر إليها باستغراب.
فرح (بصوت ناعم):
إلهام... صباح الخير.
(تتقدم خطوة)
ماما راحت فين؟
إلهام تلتفت إليها ببطء، وكأن صوتها سحبها من مكان بعيد. وجهها يحمل لمحة قلق وتعب.
إلهام (بابتسامة باهتة):
راحت الشركة... قالت عندها شوية ورق لازم تخلصه.
فرح تومئ برأسها بحركة سريعة وهادئة، دون أن تشك بشيء واضح.
ثم تستدير وتمشي نحو الصالون وهي تقول:
فرح: تمام، هعمل شاي وراجعالك.
تمرّ عيناها سريعًا على طاولة صغيرة بجوار أحد المقاعد، فتلاحظ ورقة أو صورة سقطت على الأرض، نصفها تحت الكنبة.
تقترب وتنحني لتلتقطها، تمد يدها وتسحب الصورة بهدوء... لكن فجأة يتوقف كل شيء...
تحدّق في الصورة بين يديها.
فرح (بهمس لا يكاد يُسمع):
دي أنا...
تُقرب الصورة من وجهها أكثر، تنظر جيدًا... كانت صورة لطفلة بعمر أقل من عام، بملامح فرح الواضحة، ترتدي فستانًا أبيض، وفي ظهر الصورة مكتوب بخط يد ناعم: "ليلى – 10 شهور".
يتجمد الزمن لثوانٍ...
إلهام، التي كانت تراقب من بعيد، ترى الصورة في يد فرح... تنهض من مكانها فجأة ووجهها يتبدل...
إلهام (بصوت مخنوق):
فرح... أنتي لقيتي الصورة دي فين؟
فرح تلتفت ببطء، والصورة ما زالت في يدها، ووجهها مليء بالدهشة والخوف والارتباك.
فرح (بصوت منخفض):
هي دي أنا... بس... مين ليلى؟
تبادل النظرات بينهما يكون طويلًا، مشحونًا، مليئًا بالأسئلة غير المعلنة...
************
بقلم / سمر الكيال
حسناء الكيال
** انتظروني البارت القادم **
تعليقات
إرسال تعليق